من الأكيد أن الاعتناء بالنظافة الشخصية، ونظافة الأبناء والمنزل وكل ما يحيط بنا أمر جيد جدا بل ومطلوب، لكن كما يقول المثل العربي الشهير “إذا زاد الشيء عن حده، انقلب إلى ضده”. وهذا ما قد يحدث لك أو لأبنائك إذا كنت من أولئك الذي “يعيفون” أو يشمئزون من رؤية قليل من القمامة مرمية إلى جانب المنزل، أو يمنع أبناءه من اللعب مع الغير حتى لا يصابون بأي مرض معد، أو كنت من أصحاب الشخصية الوسواسية الذين يقضون الساعات الطوال في تنظيف كل شبر من البيت، مع استعمال أقوى المنظفات وأعتى مبيدات الباكتيريا.
بالفعل فقد أثبتت العديد من الدراسات العلمية الحديثة أن الافراط في النظافة – خصوصا بالنسبة للأطفال – يتسبب في ارتفاع معدلات الإصابة بأمراض الحساسية، واضطرابات المناعة الذاتية والربو والبعض من الالتهابات الجلدية والمعوية والتناسلية إلخ. وقد حاول العلماء تفسير النتائج المحيرة للعديد من هذه الدراسات الميدانية، وأرجعوا الأمر في آخر المطاف إلى ثلاثة عوامل رئيسية سنحاول التطرق إليها بشيء من التبسيط، بعد تقديم أمثلة عن هذه الدراسات والنتائج غير المتوقعة التي تم التوصل إليها.
المحتويات
دراسات مثيرة للدهشة
هناك العديد من الدراسات الدولية التي كشفت نتائجها الضرر التي قد تتسبب في حدوثه النظافة الشخصية المبالغة فيها على صحة الإنسان، ونذكر منها ثلاثة على سبيل المثال لا الحصر:
الدراسة الأولى
في الولايات المتحدة الأمريكية، تعيش طائفة مسيحية منعزلة عن المجتمع تدعى بطائفة (الأميش =Amish) التي ترفض الانصهار في المجتمع الحديث والعيش وسط مظاهر الترف والمدنية؛ بل إن أعضاء الطائفة لا يؤمنون بالكهرباء ولا السيارات ولا حتى النقود الورقية، مصرين على العيش حياة القرون الوسطى التي تتميز – من بين ما تتميز به – بقلة النظافة نتيجة عدم توفر قنوات الصرف الصحي، وقنوات الماء الصالح للشرب، وأيضا نتيجة العمل في الحقول وتربية الحيوانات الأليفة، … في ظل هذه الظروف، تبين أن نسبة أمراض الحساسية في هذه الطائفة هي الأضعف بنسبة 10 أضعاف مقارنة بالمعدل الوطني، والسبب وفق الدراسات تعرفونه الآن، وتفسير ذلك بعد قليل.
الدراسة الثانية
دراسة أخرى حديثه تم إجراؤها في منطقة تجمع الحدود المشتركة لثلاث دول هي روسيا وفنلندا واستونيا: حيث يعيش الروس في تلك المنطقة في البادية معرضين لتشكيلة واسعة من الميكروبات الموجودة في التربة وفي الحيوانات؛ عكس الفنلنديين مثلا الذين يعيشون في بيئة فائقة النظافة، وقضى معظم أطفالهم سنواتهم الأولى بين أربعة حيطان. وقد تبين أن معدلات الإصابة بالسكري نوع 1 مرتفعة عند الفنلنديين والاستونيين بشكل معبر وقابل للقياس الاحصائي مقارنة مع الروس… كما أن الكائنات المجهرية التي تعيش في أمعاء الأطفال الروس أنواعها قليلة، بل وأكثر سلمية من تلك التي تسكن أمعاء أطفال الجيران. دراسة المتغيرات الجينية والبيئية، أظهرت أن لعامل النظافة الشخصية تأثير في التغيرات الاحصائية التي تم الكشف عنها.
الدراسة الثالثة
في مجال النظافة الحميمة عند النساء، يعلم الأطباء ويعلنون منذ سنوات طويلة أنه يجب الامتناع عن عمل ما يعرف بالتنظيف المهبلي، حيث تقوم المرأة – لأسباب تنظيفية أو صحية – بإدخال تيار من الماء الممزوج غالبا بمنظفات خاصة إلى المهبل، عبر إجاصة مهبلية متصلة بخرطوم يحوي ثقبا صغيرة من الجانبين تسمح بخروج الماء. ويمكن أن نضيف إلى هكذا تصرفات جميع الطرق التي تحاول بها المرأة “تنظيف” المهبل، ولو حتى بإدخال قماشة أو خرقة مخصصة لهذا الغرض. والسبب أن هناك خطر كبير بالإصابة بتعفن مهبلي عبر تكاثر نوع خاص من الجراثيم الممرضة، والتفسير تجدونه أسفله.
اضطرابات المناعة أول الأسباب
عندما نصاب بأمراض – خصوصا التعفنية منها – فجسمنا مؤهل بنسبة كبيرة للتصدي لها والتخلص من الجراثيم المسببة لها وذلك يعود بالأساس إلى جهاز المناعة الذي يتكفل بحماية الجسم من كل هجوم خارجي. ويتميز هذا الجهاز المعقد بقابليته للتطور والتأقلم: فمثلا، عندما يصاب أحدنا بنوبة إنفلونزا لأول مرة، فالمناعة تتدخل ببطء نسبي، عبر آليات بطيئة نسبيا وغير مستهدفة للأنفلونزا بعينها.
لكن في المرة القادمة، ستكون الاستجابة المناعية أسرع وأكثر استهدافا ونجاعة، لأن الجسم يطور بعد كل مواجهة “خلايا ذاكرة” تجوب – لسنوات في بعض الأحيان – عشرات الآلاف من الكيلومترات التي تمثلها العروق الدموية واللمفاوية بحثا عن هذه العناصر الخارجية، وما إن تكشف عن وجودها حتى تنشط خلايا مناعية عالية التطور، ومجهزة مسبقا لمواجهة المعتدي فيكون العلاج والشفاء سريعين.
وهذا بالمناسبة هو مبدأ التلقيح، حيث نقوم بإدخال الجرثومة (ميتة أو موهنة أو أشلاء) عن قصد إلى الجسم لنستفز المناعة، ونجعلها تتأهب وتحضر نفسها للدود عن الجسم في حالة العدوى الفعلية.
لكن بالنسبة لصغيري السن من الأطفال، فجهاز المناعة ليس ناضجا تماما، ويلزمه “الاحتكاك بالجراثيم” حتى يطور من إمكانياته ويتعلم من أخطائه ويصبح أكثر كفاءة. وهذا لا يتأتى بعزل أطفالك عن الآخرين، والمبالغة في تنظيف أياديهم وأفواههم عند أقل اتصال مباشر بالأرض أو احتضان من قريب، أواتساخ للملابس خوفا عليهم من الجراثيم والميكروبات والعدوى، بل العكس هو الذي يوشك أن يحدث على المدى المتوسط، حيث يكون الجسم غير مؤهل للدفاع عن نفسه، مع العلم أن الأدوية لا تغطي جميع الأمراض التعفنية.
وقد يصل عدم نضج جهاز المناعة إلى درجة الاختلال حيث يصبح الجهاز غير قادر على التفريق بين ما هو ذاتي وبين ما هو خارجي، فيبدأ في الهجوم حتى على الخلايا الذاتية للجسم فيما يعرف بأمراض المناعة الذاتية كالحساسية والربو وربما حتى السكري من النوع 1 حسب الدراسة التي أشرنا إليها أعلاه.
لنحترم الجراثيم النافعة
خلافا للاعتقاد الشعبي، فالجراثيم ليست كلها ضارة، بل إن بعض الجراثيم الضارة تكون نافعة إذا لم تكاثر بشكل يخرج عن السيطرة لسبب من الأسباب. فمثلا:
الأمعاء والجراثيم النافعة
أمعاء الإنسان مليئة حد التخمة بالجراثيم النافعة، حيث تتعدى أعدادها السبعين ألف مليار خلية التي يتكون منها جسمنا.
وتقوم هذه الجراثيم بأدوار يمكن وصفها بالحيوية لاشتغال الجهاز الهضمي على اكمل وجه: إذ تقوم بتحويل ومعالجة بعض أنواع الطعام، وإفراز بعض الفيتامينات وتحييد بعض السموم، وتنظيم اشتغال بعض الهرمونات، بالإضافة إلى المشاركة في تنظيم الجهاز المناعي.
وهذا ما يفسر حدوث بعض اضطرابات الجهاز الهضمي كالآلام مثلا أوالانتفاخ أو الاسهال عندما يتم استعمال المضادات الحيوية بشكل يؤدي إلى هلاك العديد من أنواع الجراثيم المفيدة؛ وهذا ما يفسر أيضا أن العلاج يصبح هو تناول هذه الجراثيم (هل تتذكرون ultralevure).
في المرة المقبلة التي ستحاولين فيها سيدتي عمل حمام مهبلي لدواعي تنظيفية أو صحية بالطريقة التي ذكرناها أعلاه… يجب أن تعلمي أنك تدمرين باكتيريا مسالمة تدعى العصيات اللبنية التي تعمل على الابقاء أو الرفع من حمضية المهبل، وهكذا فهي تساعد على تدمير الخلايا البكتيرية والطفيلية؛ وبالتالي فقد يصف لك الطبيب تحاميل مهبلية تحوي هذه العصيات لعلاج تعفن طفيلي من نوع candida مثلا.
الأطعمة مفيدة للأمعاء
لا تشمئزي من الموضوع، فاليوغورت الذي تتناولينه كل يوم، إلى جانب أطعمة أخرى كالخبز والزيتون المعالج… كلها أطعمة تحتوي أيضا على العصيات اللبنية المفيدة للأمعاء… فلا تدمري سيدتي هذه الكائنات المجهرية عبر التنظيف الحميمي المبالغ فيه.
يوجد بعض الميكروبات المُفيدة
يمكننا الحديث أيضا بنفس الطريقة على “الميكروبات” المفيدة التي تستوطن أفواهنا وجلدنا وحلقنا وأنفنا.
المواد المنظفة للجسم وللبيئة المحيطة لا تخلوا من أضرار على الصحة
في عصرنا الحديث، لا يكاد يخلو بيت من المواد المنظفة سواء تلك الموجهة لتنظيف أجسادنا أو لتنظيف البيت والبيئة المحيطة بنا على وجه العموم… المزعج في الأمر أن نسبة لا يستهان بها من هذه المنتجات تحوي مواد كيماوية قد تكون مضرة بالصحة أو حتى سامة في بعض الأحيان، خصوصا في حالة الاستعمال المكثف لها. ونحن أسفله لن نذكر أسماء تجارية لهذه السلع، لكن كونوا على ثقة أنكم تستعملونها ربما يوميا. وإليكم أمثلة عن المواد الكيميائية التي توجد في العديد من هذه المنتوجات، والآثار الضارة التي يمكن أن تحدثها:
المنتجات الخاصة بالنظافة الشخصية والتجميل:
Ethyl Methyl, Butyl Propyl | Parabens | اختلالات هرمونية زيادة في الوزن سرطان الثدي |
الشامبو والكريمات |
Fragrance, DEHP, DHP, DBP 5, Dibutyl Phthalate | Phthalates | مشاكل في الخصوبة وحيوية الحيوانات المنوية | طلاء الأظافر مزيل العرق شامبو – كريمات |
Triclosan, Chloro, Phenol, Irgasan | Triclosan | اضطراب عمل الغدة النخامية – الرفع من مقاومة الباكتيريا للمضادات الحيوية | الصابون المضاد للبكتيريا – الشامبو معجون الأسنان مزيل العرق |
(Sodium lauryl sulfate (SLS Sodium laureth sulfate (SLES) |
تنتج قدرا كبيرا من الرغوة | التهابات الجلد و العيون والرئة اضطرابات كلوية |
الصابون السائل ماسكارا شامبو علاج حب الشباب |
methanal – formol formaldehyde aldehyde formic |
ألدهيد النمل | الأنف و البلعوم حساسية الجلد اضطرابات المناعة |
طلاء الأظافر شامبو ظلال العيون أنواع من الصابون |
Methacide Methanephenyl Methylbenzene – Toluene Methylbenzol – Tolu-Sol Phenylmethane |
قطران الفحم مشتقات بترولية |
اضطرابات في الجهاز التنفسي تسمم الجهاز العصبي تهيج البشرة |
صقل و علاج الأظافر تلوين الشعر تبييض البشرة |
Polyethylene glycol (PEG, PPG, Cocoate), propylene glycol, polyoxyethylene, polyethoxyethylene, polyethoxyethylene mineral oil | مواد بترولية | مواد مسرطنة تأثير في عمل الكلي والكبد |
كريمات واقيات الشمس |
Isobutene | مادة بترولية | مادة مسرطنة | مرطبات البشرة كريمات الحلاقة معطرات النفس طلاء الأظافر |
Blue 1, Green 3, Yellow 5 & 6, Red 33 | قطران الفحم | مواد مسرطنة | ملونات الشعر شامبوهات طبية |
Lead acetate, thimerosal, mercurius solubilis, mercurius sublimates, mercuric chloride | الزئـبـق الـرصـاص |
سرطان الثدي تسمم الجهاز العصبي |
تلوين الشعر علاج الجروح الدموع الاصطناعية |
المنتجات الخاصة بتنظيف المنزل وما شابه:
2-butoxyéthanol | إلتهابات الجلد و العيون اضطرابات دموية مشاكل في الخصوبة |
منظفات النوافذ و السجاد مزيلات بقع الملابس منظفات السيارات و زجاجها منظفات وسائل الطبخ |
الأمونياك | التعرض للغاز يسبب الاختناق و التهابات الجلد و العيون و الحلق و الرئتين مع إمكانية تأثر الكلي و الكبد | منظفات النوافذ و المطبخ و الحمام انسداد قنوات الصرف الصحي |
Sodium dichloroisocyanurate dihydrate | التهابات الجلد و العيون و الجهاز التنفسي أضرار في الكلي |
منظفات المراحيض معطرات الجو مطهرات الأرضيات |
Nonylphenol ethoxylates | سرطان الثدي | مزيلات بقع الملابس منظفات السيارات منظقات المراحيض معطرات الجو |
Hydroxyde de sodium | التهابات الجلد و العيون و الجهاز التنفسي | منظفات المطابخ و الحمام – معقم انسداد قنوات الصرف الصحي |
Trisodium Nitrilotriacetate | مسرطن محتمل | منظفات الحمام |
هل نبقى متسخين لنحافظ على صحتنا؟
- الجواب بالطبع بديهي وهو لا… لكن يجب تجنب الافراط في النظافة الشخصية والمنزلية، واستعمال منتوجات تنظيف طبيعية كما كان يفعل أجدادنا، مع اجتناب – قدر الإمكان – مواد التنظيف ذات الطبيعة الكيميائية، والتأكد من ذلك عبر مطالعة المكونات والبحت في طبيعتها (غوغل هو صديقك الأكبر).
- دعي طفلك يحبو على الأرض من دون أن تكوني مجبرة على تنظيف يديه كل خمس دقائق بمطهر أو معقم.
- انسي ماء جافيل وبعض المطهرات الأخرى التي تهيج الجهاز التنفسي. واستخدمي الصابون العادي (زيت الكتان أو الصابون الكلاسيكي)… وكما يقول المغاربة ما معناه أن ” الأيادي هي التي تنظف وليس وسائل التنظيف “.
- علموا أبناءكم غسل أيديهم بالماء والصابون قبل الأكل، أو بعد ملاعبة حيوانات أليفة، أو بعد الذهاب إلى الحمام.
- استعمال الكحول كمادة معقمة لا يعتد به إلا في الحالات الطارئة. والواقع أن الكحول لا ينظف.
- استبدلي المناشف وإسفنجات التنظيف بانتظام (مرة واحدة في الأسبوع على الأقل).
- لا تعقمي “الرضاعة” بل اغسليها فقط كما تفعلي مع بقية أواني المطبخ.
- غسل اليدين ضروري قبل لمس أي طعام.
- تجنبوا الاتصال أو التواصل المباشر مع المرضى المصابين بأمراض تعفنية معدية.
- لا تستعملي المطهرات المنزلية القوية إلا في سياق مرض وبائي (مثل التهاب المعدة والأمعاء أو الأنفلوانزا).
- لماذا استعمال الحرارة لغسيل الثياب خارج نطاق بعض الأمراض (الجرب، القمل).
- احرصوا عل عدم الخلط أو الجمع بين مكان الأكل والعمل أوالنوم، … إلخ