استهلاك المخدرات وربما الكحول هو أول ما يتبادر إلى أذهاننا عندما نسمع أو نقرأ عن الإدمان؛ لكن موضوع “البلية” يتجاوز هذا المفهوم الضيق. ففي اللغة، أدمنت عمل الشيء، أي أدمت فعله ولازمته ولم أقلع عنه. أي أن الإدمان لا يرتبط فقط باستهلاك مادة ضارة أو سامة أو دواء (toxicomania)، بل بالدوام على الفعل وصعوبة التخلي عنه والاعتياد عليه (addiction)، رغم محاولات المدمن المتكررة الإقلاع عن إدمانه.
وهكذا يمكننا التحدث أيضا عن إدمان العمل والانترنت والتسوق، والأشخاص والأكل، والجنس والرياضة، إلخ. مع التنويه إلى أن المفهوم الذي أعطي للإدمان يفترض أن هذه الأفعال تسرق الكثير من الوقت والاهتمامات؛ كما أن المدمن من المفترض أنه يسعى لتحقيقها، مستخدما كافة الوسائل المتاحة (و ربما غير المتاحة)، على الرغم من وعيه إلى نتائجها ومخاطرها، وأنها يمكن أن تتسبب له في مشاكل صحية (عضوية و/أو نفسية) أو مجتمعية أو مادية.
السؤال المطروح الآن هو ما التفسير العلمي لظاهرة الإدمان هاته، وهل الإدمان شكل واحد أم أشكال متعددة؟
المحتويات
أنواع الإدمان
يميز المختصون بين ثلاثة أوجه من الإدمان، يجب أخذها بعين الاعتبار عندما نحاول فهم والتعامل مع الأعراض والسلوكيات التي ترافق الإدمان، أو تظهر عند محاولة الإقلاع عنه؛ وذلك حتى تتوفر الظروف المناسبة للتغلب على هذا الاضطراب الشائع جدا بين أوساط الناس. ويتعلق الأمر بالجوانب المادية والنفسية والسلوكية “للبلية”.
- يصبح الإدمان ماديا عندما يتحول استهلاك مادة خارجية أو غريبة عن الجسم إلى ضرورة حيوية أو وظيفية لاشتغال إحدى آليات هذا الأخير؛ لدرجة أن غيابها – أي التوقف عن استهلاكها – قد يتسبب في ظهور أعراض مرضية عضوية قد تكون خطيرة في كثير من الحالات. هذه الأعراض، المعروفة بالأعراض الانسحابية، هي نتيجة لتعود الشخص المدمن على استهلاك تلك المادة لفترات طويلة وبدون انقطاع، مع الحاجة – في أحيان كثيرة – إلى زيادة الجرعات للحصول على نفس التأثير.
- الإدمان السيكولوجي هو الرغبة الدائمة والملحة للقيام بعمل ما، أو استهلاك مادة ما أو سيطرة فكرة ما على المدمن قد تتحوّل إلى هوس. ونتيجة عدم القيام بها، تظهر أعراض نفسية وجسدية في ظل غياب إصابات عضوية أو بيولوجية. كما أن حدة وشكل تمظهر هذا النوع من الإدمان يكون أكثر ارتباطا بشخصية المدمن وحالته النفسية والعاطفية ونمط عيشه، وليس بالمادة المستهلكة كما هو حال الإدمان المادي.
- الإدمان السلوكي يرتبط بمجموع الممارسات والأزمنة والأمكنة والظروف والملابسات التي تشجع المدمن على مواصلة إدمانه، كمثلا تدخين سيجارة عند شرب الشاي أو عند الفطور أو انتظارا القدوم الحافلة،
آليات الإدمان
كل مادة أو ممارسة، قابلة للتطور إلى عادة إدمانية، طرق وآليات خاصة بها، تؤثر بها على الجسم، وخصوصا على مركز الإدراك والتفكير والانتشاء والمتعة، والمعني الأول بالإدمان: إنه الدماغ الذي يحوي ملايير الخلايا العصبية المرتبطة فيما بينها عبر ما يعرف بنقاط التشابك العصبي، حيث تمر السيالات العصبية من خلية لأخرى بمساعدة وسائط كيميائية لا غنى للجهاز العصبي عنها. من بين تلك الوسائط نذكر السيروتونين والأفيونات الداخلية المنشأ والنورأدرينالين، تم الذي يهمنا أكثر في موضوعنا هذا: الدوبامين؛ حيث سنتناول بشيء من التفصيل آلية بعينها تستعملها كل تلك المواد والممارسات الإدمانية للوصول بك إلى الحالة التي ترى عليها المدمنين – بغض النظر عن طبيعة وحدة التغيرات العضوية والنفسية والسلوكية وأعراض الانسحاب التي تتسبب في ظهورها تلك المادة أو الممارسة.
على مستوى الفصوص الصدغية من الدماغ، توجد مجموعة من المراكز والتجمعات العصبية – ذات الوظائف المختلفة، لكن تبقى متكاملة – حيث تبث أنها تشارك في تخزين الذكريات المرتبطة بتجربة إنسانية معينة وتثمين القيمة العاطفية لها. هذه المراكز تدخل فيما يعرف بالجهاز الحافي أو النطاقي المرتبط بشدة بعدة مكونات عصبية مركزية أخرى:
- فهناك من جهة ما يعرف بتحت المهاد (hypothalamus) الذي يعتبر همزة الوصل بين الجهاز العصبي والهرموني، كما أنه يتحكم بنسبة كبيرة في عدد من وظائف الجسم الحيوية كدرجة حرارة الجسم ونظام الساعة البيولوجية والإحساس بالجوع والشبع.
- وهناك الفص الجبهي للدماغ المتحكم في الوظائف الإدراكية، وعمليات التخطيط والتحفيز واتخاذ القرارات.
- ثم هناك الجهاز العصبي اللاإرادي، المسؤول عن عمل الجهاز التنفسي، والهضمي، والدوراني،
إذا، يمكننا أن نستنتج أنه إذا تمكنا – بطريقة ما – من الزيادة في نشاط الجهاز الحافي، فإننا سنرفع أيضا من مستوى نشاط مجموعة متنوعة من الوظائف الحيوية والإدراكية والإنتشائية.
وهذا بالضبط ما تحققه العديد من المواد والممارسات الإدمانية، عبر الزيادة في تركيز وسيط كيميائي مثل الدوبامين – على مستوى نقاط التشابك في الخلايا العصبية – التي تربط مناطق بعينها في الجهاز الحافي، بمعية منطقة دماغية أخرى صغيرة وبعيدة تدعى النواة المتكئة: كلا المنطقتين المرتبطتين وظيفيا تعرفان بمركز المكافأة.
الدوبامين ومركز المكافأة
في الظروف العادية، يتلقى مركز المكافأة معلومات دقيقة، من المكونات المتبقية للجهاز الحافي، حول درجة الإشباع أو الرضى عن مجمل الوظائف التي يطلع بها هذا الأخير، أو التي يتابعها – عبر بقية الأجهزة والأنظمة العصبية المرتبطة به. ويدرس سبل تشجيع وتسهيل إعادة توظيف الظروف والملابسات والتي أدت إلى تمظهر تأثيرات عضوية ونفسية غير متوقعة وإيجابية، التي حصلت على أعلى نسب القبول.
في الحالة الإدمانية المادية خصوصا، يكون تركيز الدوبامين في نقاط الاشتباك العصبية أكبر فأكبر – وبالتالي تكون درجة الإشباع والرضى أعلى فأعلى؛ مما يجعل الجسم يقوم شيئا فشيئا بتنشيط آليات مختلفة للحد من الارتفاع الصاروخي للدوبامين بهدف الحفاض على توازنه، كأن يقوم مثلا بتخفيض عدد مستقبلات الدوبامين أو حساسية المستقبلات لتأثيره، أو حتى تقليص مستوياته.
رد فعل الجسم هذا، يفرض على المستهلك – المشرف على الإدمان – الرفع من مستويات الاستهلاك أو الممارسة بصورة أكبر وأطول، ليس فقط حتى يستمر في الحصول على الإشباع الذي يبحث عنه، بل أيضا لتفادي الآثار الجانبية التي تظهر عند التوقف عن الاستهلاك أو تقليصه – بما أن إفراز الدوبامين أصبح أيضا مرتبطا بالمادة أو الممارسة الاستهلاكية.
مراحل السقوط في الإدمان
على ضوء ما قيل، يمكن أن نستنتج أن حالة الإدمان المزمنة لا تظهر بين عشية وضحاها، بل تأخذ وقتا، وغالبا ما تمر بثلاثة مراحل:
- أولا هناك الاستعمال أو الممارسة البسيطة والفضولية، بحثا عن تجارب جديدة ومفيدة أو كسرا للطابوهات والمحرمات، في هذه المرحلة، لا وجود لأية آثار سلبية أو أضرار. إنها مرحلة الاكتشاف والإعجاب.
- ثم تأتي مرحلة الرغبة، حيث نستمر في عملية الاستهلاك بحثا عن التأثيرات الإيجابية (المتعة والسرور مثلا)، رغم أن السلبيات بدأت لتوها في الظهور.
- أخيرا، نمر بطريقة بطيئة إلى مرحلة التعلق والتعود حيث تحل الحاجة محل الرغبة والإعجاب. وهنا نصبح بالفعل نتكلم عن اضطراب صحي أو مرض الإدمان.