كتب الكثير من الكتاب الكبار عن أسرار الكتابة الناجحة على غرار ماركيز، وهمونغاي، وستيفن كينج… ولست هنا لأملأ نصي بشواهدهم، رغم أنها أضمن مصدر قد يستقي منه أي كاتب مبتدئ إذ أنها تراكم لخبراتهم ونجاحاتهم، إلا أني أحببت أن أكتب من زاوية أخرى، إذ وددت أن أدون ملاحظاتي كقارئ، وأكشف رؤيتي للكتب التي أصنفها بالصف الأول:
المحتويات
ماهي قضيتك؟
أول شيء يجب أن تفكر فيه قبل أن تخطو الخطوة الأولى نحو تأليف كتابك هي تحديد القضية التي تشغلك، أو إيجادها!.. نعم فقد تكون الكتابة بالنسبة إليك إلى حد الآن مجرد تنفيس، أو طريقة لصناعة إسم.. بل حتى الإسم الذي تبتغيه من وراء الكتابة لن تجد إليه طريقا دون أن يغتمّ قلمك بقضية ما.. الأمر الملموس الآن أن لا أحد له الصبر لشراء كتاب واستنزاف ماله ووقته لأجل قراءة نفسيتك، أو البكاء معك على أطلال محبوبتك، أو لييّ عنقه وقراءة فلسفتك في شبكة العنكبوت المنصوبة في زاوية الجدار!.. ففي واقعنا الطاحن آلاف القضايا التي يرغب الناس في كل أرجاء المعمورة أن يجدوا من يتحدث عنها، ويشعر بها، ويشاركهم إياها.. بنظري هذه هي مهمة الكاتب الحقيقي، وهذا هو الجسر الذي يقوده إلى قلوب الناس..
رتب أفكارك
هندس أفكارك بطريقة منظمة تصاعدية، ضع في اعتبارك أن من يقرؤك لا يعرف فيما تفكر، فلا تجره إلى قلب الفكرة جرا، بل دعه يأتي إليك متمهلا، في كل فصل من كتابك دعه يخرج بشيء واحد، حتى إذا طوى كتابك وجد في رأسه منظومة متكاملة من التفاصيل توصله بشكل منظم ومنطقي إلى ما تريد قوله، وكما أشرت في النقطة السابقة، وأشدد عليه دائما، هذا لن يبلغه الهواة، أصحاب الخربشات الأولى لا يزال أمامهم الكثير حتى يمسكوا بزمام الكتابة الناجحة، فإما أن يهيئوا أعناقهم لانحناء طويل، أو يخرجوا من السباق مبكرا..
أطفئ النور
لا تكشف كل أوراقك في الصفحة الأولى، أترك باب الحقيقة مواربا حتى آخر صفحة، تعمد إطفاء النور عن بعض الزوايا، جرّ قارئك إلى الطريق الذي تريده، أنثر أمامه الكثير من الأسئلة، أوصله إلى ما قبل باب الحقيقة بخطوة ثم أصفق في وجهه الباب.. دعه يشتمك، يلعنك، لكن لا تدعه ينساك..
هذه الطريقة أعتبرها حيلة الأذكياء من الكتاب، فهناك من لديه الموهبة لكنه يفتقر إلى الذكاء، إذ تجده يسكب كل ما يملكه في صفحاته الأولى، أو يطرح أفكاره بطريقة تجعل تتمة كلامه متوقعة، هنا يفقد القارئ القدرة على المواصلة، وتذوي دهشته مبكرا، فلا تستغرب إن وجدته طرحك وكتابك من حسابه، مهما كان كلامك قيما وثريا، فأنت المسؤول على تطويع أفكارك لاستبقائه، بل وجعله يستزيد منك..
كن خلاقا
السير في طريق سبقك إليه غيرك أول طريقة لتكون كاتبا فاشلا، أو عاديا كأحسن تقدير.. الكتابة عن الحب أمر مريح، فكلنا نملك قصصا مثيرة في هذا الجانب، بل لا نعدم من قصص أقربائنا أو معارفنا ما يمكننا من كتابة مجلدات فيه، لكن إذا اعتقدت أنك قد تزيد عن ما كتبه نزار بحرف واحد، فاذهب وسأهلل لك.. لكن ألا تعتقد أن من الأجدى أن تحط في أرض لم يطمثها قلم قبلك؟.. سيبدو لك الأمر في البداية صعبا، لكن صدقني هذا من أكثر مفاتيح الكتابة نجاعة..
لون ما استطعت
إجعل قارئك يصاب بدوخة ألوان!.. أمزج أكثر من حبر في لوحة واحدة، فذلك ما يضمن لك وقوفه الطويل أمام نصك. الغنى المعرفي سر لا يمتلكه إلا قلة من الكتاب، إذ أن الأغلبية تتكئ في كتاباتها على الموهبة وحدها، وإن كانت الموهبة ركيزة أساسية لأي كاتب فإنها تبلى مع الوقت وتصبح غير ذات جدوى مع التحرك السريع للعالم، والانفجار الرهيب لمصادر المعرفة. في فكرة واحدة، في نص واحد، في فصل واحد أعرض الحد الأقصى من أدواتك المعرفية (واقع، خيال، عاطفة، إيديولوجيا، كوميديا…)، لتجد نفسك تزف فكرتك إلى عقل متلقيك في موكب جميل، وهذا لا يتأتى إلا لقارئ نهم، قارئ لا يشبع، وليست هناك كلمة أبلغ من تلك التي قالها سعود السنعوسي: “إمتلأت قراءة مثل شهيق طويل لا بد أن يتبعه زفير، وكانت الكتابة زفيري”.
إلهث كثيرا..
“ما نيل المطالب بالتمني”، ولا الوقوف على أسرار الكتابة الناجحة بقراءة مقالي هذا، ولا حتى بمجالسة ماركيز على فنجان قهوة.. السر الحقيقي هو أن تتعب، تتعب كثيرا قبل أن تسلم مخطوطتك الأولى ليد الناشر، أن تخاف أكثر مما تأمل، وأن تُضام أكثر مما تفرح، وأن تقسو على نفسك فتبحث، وتسأل، وتنقب في شقوق الحياة، فتستخرج أفكارك من صلب الحجر، فإذا رأته عينا قارئك أحرفا ومعان، رأيته أنت كدا وسهرا ولهاثا..
الكتابة ليست حرفة من لا حرفة له، الكتابة عند أصحاب الضمائر الحية أمانة جسيمة يحملها الكاتب على كره ويضعها على كره، ولا يرتاح إلا إذا استنزف ذرات عقله مع كل سطر يكتبه، فإذا بكتابه يضم عصير فكر ورحلة عمر.